الترجمة واللغة وتقارب الحضارات

الترجمة واللغة و تقارب الحضارات

اللغة هي العنصر الفاعل الذي يحدد نمط ثقافة أي دولة وهويتها‏، وما إبداعاتها ومنجزاتها الثقافية والفكرية إلا طاقات خلاقة متجسدة في موروث الماضي ودراسة الحاضر واستشراف المستقبل، وتظل اللغة رابطاً أساسياً يجمع الثقافة والحضارة في مكونات أي مجتمع.

ولكي تتواصل الحضارات وتتقارع اللغات لا بد من أن تتم ترجمة المحتوى من وإلى هذه اللغة أو تلك، ومن ثم تجسد الترجمة عصب الحياة الذي تستمد الحضارات منه كينونتها وبقائها وعطائها وتأثيرها، لدرجة أنه يمكن القول، إن الترجمة غيرت وجه العالم من جزر منفصلة منعزلة إلى شبكات متداخلة.

الترجمة واللغة و تقارب الحضارات
الترجمة واللغة و تقارب الحضارات

تناقل المعارف

الترجمة هى صيغة وصل بين البشر على وجه الأرض، وتمثل تناقل العلوم والفنون بين البشر أيضًا، بهذه الكلمات بدأ شيخ المترجمين العرب د.محمد عناني، أستاذ الأدب الإنجليزي بجامعة القاهرة، حديثه، موضحًا أن رواية «حي بن يقظان»، التي كتبها ابن طفيل، جسدت أول تصور لحياة الإنسان وسط الغابات وتجرده من كل معالم الحضارة.

والعودة للبدائية للوصول للصوفية المطلقة، وتم ترجمتها للغات أجنبية خلال عهد النهضة الإيطالية، كذلك كتب البيروني الرحالة والفيلسوف والرياضى، الذي حسب محيط الأرض، تم الاستعانة بمؤلفاته لفهم فيزياء الأرض.

وذلك في أغلب دول العلم المتقدم الآن، وأيضًا لا ننسى جابر بن حيان، أو كما هو معروف في حقل العلماء بـ«أبو الكيمياء»، هذا العربي الذي قدم نظريات في علم الكيمياء لا تحصى، وأثرت فكر العلماء ووسعت من دائرة الاختراع والاكتشاف في الكون الفسيح، كل هؤلاء وغيرهم من الكتاب والفلاسفة والمفكرين والعلماء، الذين كانت لهم إسهامات في العلم والأدب، تم نقلها للعالم بعد ذلك؛ لتكون ميراثًا إنسانيًا متجانسًا.

أيضًا هناك منافسة شديدة مع أكثر من جهة عربية لديها مشروعات ناجحة للترجمة مثل مركز الترجمة العربى في بيروت ومشروع «كلمة» للترجمة في الإمارات، وغيرها من دول المغرب العربي، لذلك فإن حركة الترجمة في العالم العربي بصفة عامة، وفي مصر بصفة تتجه نحو الازدهار.

أساس الحضارات

,يرى د.يوسف نوفل، الذى يُعد أحد أعلام النقد العربي الأدبي الحديث، أن الترجمة مهمة جدًا في كل العصور، وقد أثبت تعاقب الحضارات أنه ما من حضارة قامت وأسهمت وأثرت في غيرها إلا من خلال الترجمة، ويُمثل على كلامه بالحضارة العربية، التي كانت خير ناقل للثقافة والحضارة الإغريقية، التي تهدد تراثها كثيرًا بفعل الزمن، ولكن بفضل نمو حركة الترجمة في الوقت العربي، لاسيما مع العصر العباسي فقد ظل الأمر على هذا الوضع حتى استلمت الراية الحضارة الغربية، ونمت حركة الترجمة خلال عصور النهضة التي عقبت عصور الظلام، التي سادت أوروبا، حيث تم ترجمة كل ما حوته الكتب العربية للغة اللاتينية، ومنه للغات الأجنبية المختلفة، وانتشر علم العرب المطور من العلم الإغريقي، وهو ما أسهم بدوره في نهضة الجامعات الأوروبية، وهو ما يُثبت أن الترجمة هي أساس الحضارات وتناقل المعرفة والعلم والثقافة.

جسر تواصل

من جانبها، أشارت الكاتبة سكينة فؤاد، إلى أهمية دعم الدولة لحركة الترجمة، والتي تساهم بدورها في تكوين وخلق أفق جديد وجسر من التواصل بين البشر حول العالم، فالترجمة أحد إسهامات المترجمين والدولة معًا، فلا يمكن طرق باب الترجمة من دون الدعم، كما أشارت إلى أهمية تنمية المترجم لمهاراته الخاصة، التي تبدأ من تمكنه من اللغة التي يترجم منها، ومعرفة كبيرة لا تقبل للنقاش للغة التي يترجم لها، كما أكدت نقطة التخصص، التي اعتبرتها من بديهيات الترجمة التي لا نقاش بها أو جدال من قبل المترجمين.

اللغة والحضارة

الحضارة في الأصل خلاف البداوة، وتطلق في العصر الحديث على مظاهر الرقي والتطور في نواحي الحياة المختلفة، فما العلاقة بين اللغة والحضارة؟

أيُّ علاقة وثيقة تلك التي تجمع بين اللغة والحضارة، فهل هي علاقة بُنُوَّة؟ أم أُخُوَّة؟ أم مجرد صداقة بحكم المجاورة؟ قد يبدو الرابط بين الاثنين شبيها بكل تلك الأنواع من العلائق من وجه، فإذا نظرنا إلى أن الحضارة لا تقوم إلا على أساسين، هما: الأساس الفكري، والأساس المادي، والأساس الفكري يصاغ باللغة، وينقل عن طريقها؛ ليتم تداوله ونشره، ثم تقييمه وتقويمه، كل ذلك يقوم على متن اللغة لا غنى عنها، فكأنها أمٌّ تحمل وتضع، ثم تُرَبِّي وترضع، فيصدق إذن على العلاقة بين اللغة والحضارة أنها علاقة بُنُوَّة، فإذا لم ننزلها تلك المنزلة، فلا أقل من أن نشبهها بالأخوة أو الصداقة.

الأساس المادي للحضارة

يقوم هذا الأساس على القوة القادرة على إقامة العدل، وفرض النظام، والتحكم في توجيه طاقات المجتمع، فإذا جمعت إلى ذلك إرادة صادقة، وسعيا للنهوض بالأمة، كان للأمة أساس مادي لبناء الحضارة، وأهم ما يوظف فيه هو: العناية بالأساس الفكري؛ لتنطلق النهضة الحضارية بشكل متوازن، خال من الانحراف المؤدي إلى الضعف، وسرعة السقوط، فهذا إذن هو الأساس المادي للحضارة، وهذا دوره، فما هو الأساس الفكري؟

الأساس الفكرى للحضارة

الأساس الفكري هو أهم عناصر الحضارة؛ إذ بوجوده تبقى الحضارة حية -وإن ضعفت بزوال الأساس المادي- وبه تستطيع التمدد والانتشار، وقد تتجاوز المدى الذي يبلغه الأساس المادي في وقت قيامه، بل قد يمتد الأساس الفكري إلى أمم أقوى ماديا من الأمة المنتجة له، أو الآخذة به، فالأمة الإسلامية مثلا قامت على الأساس الفكري، وهو الوحي المنزل على الرسول صلى الله عليه وسلم، ثم تدرجت به في مراحل القوة، حتى تَكَوَّنَ الأساس المادي الأول لحضارة الإسلام، وهو: الدولة الإسلامية، التي ولدت والأعداء يحيطون بها من كل جانب، فلولا أن الله أيدها بذلك الأساس الفكري القوي لم تقم لها قائمة، فهو سبب بقائها رغم فترات الضعف الكثيرة التي مرت بها.

وقد يتعلق الأساس الفكري بالتشريع، وهذا ما كُفِيَتْهُ الأمة بالوحي، وقد يتعلق بطرق تعمير الأرض، والاستفادة مما فيها من منافع، وهذا ما أتيح للأمة أن تستفيد فيه من تجارب الأمم قبلها، التي كان لها أساس فكري من العلم التجريبي، الذي تحتاج إليه الأمة، فقد كان للحضارة اليونانية مثلا أساس فكري علمي، بقيت آثارها ممتدة إلى ما بعد سقوط سلطانها، وذهاب قوتها، يدل على ذلك ما جرى بين المأمون وملك الروم، حيث طلب المأمون منه مخزون اليونان من كتب الحكمة، وكان ذلك في ووقت ضعف دولة الروم، حتى تنازلت عن ذلك التراث الثمين لأسلافها. ويحتاج الأساس الفكري إلى روافد تغذيه، والعمل على توفيرها هو الدور الأهم للأساسي المادي للحضارة، وذلك بالاستفادة من الإنتاج الفكري للأمم الأخرى، في الجانب الذي تحتاج إليه الأمة، وحاجة الأمة الإسلامية تنحصر في العلوم التجريبية، التي يُؤَهَّل العقل البشري إلى اكتشافها، والإبداع فيها، حتى ولو لم يكن مستنيرا بنور الوحى، فهي مما يتوصل إليه بالإرادة والسعي، فيُسْتَحَق بذلك من الإمداد والإعانة ما يريد الخالق سبحانه، قال تعالى: ﴿مَنْ كَانَ يُرِيدُ الْعَاجِلَةَ عَجَّلْنَا لَهُ فِيهَا مَا نَشَاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنَا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلَاهَا مَذْمُومًا مَدْحُورًا وَمَنْ أَرَادَ الْآَخِرَةَ وَسَعَى لَهَا سَعْيَهَا وَهُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولَئِكَ كَانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُورًا كُلًّا نُمِدُّ هَؤُلَاءِ وَهَؤُلَاءِ مِنْ عَطَاءِ رَبِّكَ وَمَا كَانَ عَطَاءُ رَبِّكَ مَحْظُورًا﴾ }الإسراء: 18-20{.

مخاطر الروافد الفكرية

اللغات ليست قوالب فارغة، بل هي مرتبطة تماما بالثقافة التي تمثلها، ونقل العلوم من لغة إلى أخرى يمر عبر التعرف على ثقافة تلك الشعوب بجوانبها المختلفة، الاجتماعية، والأخلاقية، والفكرية، وهذه أخطرها، بشهادة واحد من أهل أهَمِّ تلك الحضارات، وأقواها أثرا، وهي الحضارة اليونانية، التي قال الراهب الرومي في شأنها لملكهم: “سَيِّرْها فإنك تثاب عَلَيْهِ، فإنها مَا دخلت فِي ملة إِلاَّ وزَلْزَلَت قواعدها”. (إخبار العلماء بأخيار الحكماء/ للقفطى)، وعلى ذلك فلا بد من الأخذ على حذر من تلك الروافد، وعدم الثقة المطلقة فيها، والاقتصار على العلوم النافعة، وتجنب ما هو شر محض، أو ما يغلب شره خيره.

خاتمة المقال

تعد اللغة وعاءً للأساس الفكرى، ووسيلة توصيله وتداوله، وفي حضنها ينمو ويتطور؛ ولذلك تُخْتار لغات الرسل تبعا للغات أقوامهم؛ ليكتمل الفهم، وتُبْنَى القناعات، وتقوم الحجة على الذين يتخلفون عن ركب الحضارة الذي يقوده الرسل، قال تعالى: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسَانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشَاءُ وَيَهْدِي مَنْ يَشَاءُ وَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ﴾ إبراهيم/ الآية:4.

اللغة تعنى بالتعبير عن التصور، وصياغة الأفكار، وتوصيل الرسائل، فلا يؤمن الحيف والميل حين يتولى هذه المهمة غير صاحب الشأن؛ لأجل ذلك أمر النبي صلى الله عليه وسلم زيد بن ثابت أن يتعلم لغة اليهود؛ ليتولى مهمة التوصيل بأمانة، فعن زيد بن ثابت، قال: أمرني رسول الله صلى الله عليه وسلم أن أتعلم له كلمات من كتاب يهود، قال: «إني والله ما آمن يهود على كتاب» قال: «فما مر بي نصف شهر حتى تعلمته له» قال: «فلما تعلمته كان إذا كتب إلى يهود كتبت إليهم، وإذا كتبوا إليه قرأت له كتابهم». صحيح، (رواه الترمذي وأبو داود).

الكلمات المفتاحية

الأفكار اللغة الترجمة الحضارة

error: Content is protected !!
Scroll to Top