اهتمت الدولة الإسلامية في عهد الخلافة الراشدة والأموية والعباسية بالعلوم والمدنية كما اهتمت بالنواحي الدينية فكانت الحضارة الإسلامية حضارة تمزج بين العقل والروح، فامتازت عن كثير من الحضارات السابقة. فالإسلام دينٌ عالمى يحض على طلب العلم وعمارة الأرض لتنهض أممه وشعوبه، وتنوعت مجالات الفنون والعلوم والعمارة طالما لا تخرج عن نطاق القواعد الإسلامية؛ لأن الحرية الفكرية كانت مقبولة تحت ظلال الإسلام، وامتدت هذه الحضارة القائمة بعدما أصبح لها مصارفها وروافدها لتشع على بلاد الغرب وطرقت أبوابه، وهذه البوابة تبرز إسهامات المسلمين في مجالات الحياة الإنسانية والاجتماعية والبيئية، خلال تاريخهم الطويل، وعصورهم المتلاحقة. ولاشك أن أول خطوة نحو ترجمة النصوص إلى العربية خطاها المسلمون الذين طلبوا إلى المسيحيين أن يترجموا لهم النصوص اليونانية، ولكن علينا أن نتأمل أكثر في النوازع الدينية، والألسنية والقومية الواعية منها واللاواعية، والتي يمكن أن نتصور لها سهما في التأثير على عملية الترجمة من اليونانية إلى العربية.
نشأة حركة الترجمة في الحضارة الإسلامية
هناك رأيان مختلفان حول نشأة حركة الترجمة في الحضارة الإسلامية:
الرأي الأول:
ويقول هذا الرأي أن الجذور الأولى لحركة الترجمة إلى العربية فى أوائل العصر الأموى، حيث ذكر في المصادر أن خالد بن يزيد بن معاوية -والملقب بحكيم آل مروان- أرسل إلى الإسكندرية فى طلب بعض الكتب في الطب وعلم الصنعة (الكيمياء) لترجمتها إلى العربية، وذلك بعدما أقصى عن الخلافة طواعية. يقول عنه ابن النديم: وقد ذكر فى “الفهرست” أن خالد كان يسمى حكيم آل مروان وكان فاضلا فى نفسه وله محبة في العلوم، فأمر بإحضار جماعة من فلاسفة اليونان الذي نزلوا مصر وتفصحوا بالعربية وكان هذا أول نقل فى الإسلام من لغة إلى لغة. ويقول عنه ابن خلكان: وصف خالد بن يزيد بقوله أنه كان أعلم قريش بفنون العلم، وله كلام في صنعة الكيمياء والطب وكان متقنا لهذين العلمين. ويقول عنه الجاحظ: قال عنه أنه كان أول من أعطى الترجمة والفلاسفة وقرب أهل الحكمة ورؤساء كل صنعة. ويقال أن خالد بن يزيد استقدم من الإسكندرية راهبا بيزنطيا اسمه مريانس، وطلب منه أن يعلمه علم الصنعة، ولم يكتف بذلك وإنما طلب من آخر اسمه اصطفن ترجمة ما أتى به مريانس إلى العربية.
الرأي الثاني:
أن حركة الترجمة ترجع إلى صدر الإسلام فى عهد الرسول الكريم صلى الله عليه وسلم وبتكليف منه، فنُقل عن الصحابة رضوان الله عليهم: “من عرف لغة قوم أمن شرهم” . ومن أشهر من تعلم السريانية فى عهد الرسول هو زيد بن ثابت رضي الله عنه، وقد تعلمها فى ستين يوما وتعلم كذلك الفارسية والرومية. وأقدم بردة في الإسلام تعود إلى سنة 22هـ، وعليها نص باسم عمرو بن العاص رضي الله عنه، وبه ثلاثة اسطر باليونانية والترجمة بالعربية تحتها، وبالتالى الترجمة ظهرت فى صدر الإسلام وليس منذ العصر الأموى.
المدارس التي ازدهرت بالعلوم والترجمة
مدرسة الإسكندرية
إلا أن انغماسها في الجدل الديني حول بعض القضايا المسيحية وبعدها نسبيا عن مركز الخلافة خاصة في العصر العباسىى، جعل تأثير مدارس الشرق وخاصة جنديسابور يبدو أكثر قوة.
مدرسة جنديسابور
اشتهرت هذه المدرسة بدراسة الطب وفيها ترجمت مؤلفات اليونان في الطب إلى السريانية وبعد ذلك نقلت إلى العربية، وينتسب إلى هذه المدرسة أطباء أسرة بختيشوع الذين اشتهر منهم من عالجوا الخلفاء العباسيين الأوائل.
مدرسة حران
وكانت مركزا للأثينيين الصابئة، وهم من السريان الذين اختلطوا باليونانية الوثنيين الفارين من الاضطهاد المسيحي، وينسب إلى هذه المدرسة: ثابت بن قرة الصابئي وله مؤلفات عديدة في الطب وعمل في خدمة الخليفة المعتضد العباسي ( 279-289 ﻫ) وكان من ذريته سنان بن ثابت الذي حظى برضاء الخليفة القاهر.
تطور حركة الترجمة وازدهارها
أخذت حركة الترجمة إلى العربية تتسع وتزداد قوة فى العصر العباسي بفضل:
1- تشجيع الخلفاء العباسيين ورعايتهم لهم، وقد فتحوا بغداد أمام العلماء وأجزلوا لهم العطاء وأضفوا عليهم ضروب التشريف والتشجيع بصرف النظر عن مللهم وعقائدهم. في حين أن حركة الترجمة في العصر الأموي كانت محاولات فردية لا يلبث أن تذبل بزوال الأفراد.
2- غدت ركنا من أركان سياسة الدولة، فلم يعد جهد فردي سرعان ما يزول بزوال الأفراد سواء حكام أوغير ذلك بل أصبح أمرا من أمور الدولة وركنا من أركانها.
وفى حين أن الترجمة في العصر الأموى اقتصرت على الكيمياء والفلك والطب، نجد أنه فى العصر العباسي صارت أوسع نطاقا بحيث شملت الفلسفة والمنطق والعلوم التجريبية والكتب الأدبية. وقد ازداد الاهتمام ببيت الحكمة، فوسع من نشاطها وضاعف العطاء للمترجمين وقام بإرسال البعوث إلى القسطنطينية لاستحضار ما يمكن الحصول عليه من مؤلفات يونانية في شتى ألوان المعرفة، فاخرج المأمون لذلك جماعة منهم الحجاج بن مطر، وابن البطريق فاخذوا مما اختاروا وقد ذكر ابن النديم انه كان بين المأمون وإمبراطور القسطنطينية مراسلات بهذا الشأن.
أهمية حركة الترجمة:
والحق أن حركة الترجمة كانت بداية حركةٍ علمية نشطة، فقد حفَّزت المسلمين إلى الإفادة مما اطَّلعوا عليه من كتب التشريحِ العديدة، مما تُرجم لأبقراط وجالينيوس وغيرهما؛ لأن الدين الإسلامى لا يبيح المثلة بالإنسان حيًّا أو ميتًا؛ فكانت هذه المترجمات خير ما وضح لهم مبهمات هذا الموضوع، كما أخذت مصنفاتهم الطبية تعكس جوانب عديدة من الطب اليوناني.
كما أن الترجمةَ قد دفعت إلى ظهور حركة تأليف فى بعض المعارف؛ فقد بدأ المترجِمون يضعون الرسائل والكتب ليستعملها الطلاب على شكل ملخَّصات فى شتى أنواع العلوم، وبخاصة الطبية منها، ثم ما لبثت هذه الحركة أن توسَّعت بين العلماء العرب الذين أخذوا يكتبون على أسس متينة من المعرفة، فقد ظهرت في الطب والفقه والتاريخ واللغة مثلًا كتب كثيرة، وبعضها بعدة أجزاء؛ بحيث كان بعضها أشبه بالموسوعات، كما كان المؤلف الواحد يصنف عشرات الكتب في مختلف المواضيع مدللًا على سَعة معرفته بمختلف العلوم. وكما يتبيَّن لنا؛ فإن المسلمين لم يتعامَلوا مع هذه المترجَمات بطريقة حَرْفية جامدة، بل سرعان ما قاموا بتفعيلها فى إطار نظامِهم الثقافي والتعليمي، يقول أحمد علي الملا في كتابه (أثر العلماء المسلمين في الحضارة الأوروبية):
(إذا كان المسلمون قد نقلوا وترجَموا كثيرًا من التراث العلمى للأمم الأخرى؛ كاليونان والفرس، فإنهم لم يلبثوا أن اعتَمَدوا على أنفسهم وعلى المناهج العلمية التي ابتكروها؛ فافتَتَحوا المدارس والمعاهد والجامعات، وألَّفوا الكتب والمراجع والأبحاث، وأقاموا المراصد والمشافى والمختبرات، يدفعهم إلى ذلك نشاط وثَّاب، وهمَّة عالية لَفَتَت الأنظار إليهم، وانتزعت الإعجاب بهم، حتى لهج أعداؤهم بالاعتراف لهم بالفضل والسبق).
ولم يلبث المسلمون أن انطلقوا إلى عالم الإبداع فى كل الفنون والعلوم، ونجحوا فى إقامة حضارة أصبحت الحضارة الأعظم خلال عشرة قرون، وإلى هذه النقلة الحضارية يشير ياسين خليل في كتابه (التراث العلمي العربي)، فيقول: (إن مكانة التراث العلمي العربي تتعيَّن باتجاهين:
الأول: بما حقَّقه العرب مِن تراجم ونقل من لغات أمم أخرى إلى اللغة العربية، فحفِظوا بذلك تراثًا ضخمًا من العلم؛ إذ لولا ذلك لضاعت معارف كثيرة، ولبَدَأ الإنسان من جديد فى طلب المعرفة والعلم، ولتأخَّر رَكْب الحضارة الإنسانية عدة قرون.
الثاني: بما أضافه العرب وابتكروه من وسائل ومعارف وعلوم جديدة لم تكن معروفة من قبل، وما قاموا بتطويره في الاتجاه العلمي الصحيح، فأنجزوا بذلك الشيء الكثيرَ فى جميع حقولِ المعرفة الإنسانية والرياضية والطبيعية والهندسية والتكنولوجية وغيرها؛ مما كان له أبلغ الأثر في النهضة الأوروبية، وبالتالي ترجمت مؤلَّفات العلماء العرب إلى اللغة اللاتينية، وتعرَّف عليها المفكِّرون والعلماء، فأفادوا منها فى تطوير العلم والانتقال به إلى مرحلة تطويرية جديدة.
وكان لهذا النشاط الإسلامي الإبداعي الدؤوب – الذي امتصَّ خلاصة الحضارات السابقة – أثرُه في بروز العصر الذَّهبي للحضارة الإسلامية في الفترة بين سنة 82 وسنة 699 هجرية (700 – 1300 ميلادية)، ولهذا سُمِّيت هذه القرون الستة بعصر النهضة الإسلامية، وكانت هذه النهضة أساس النهضة الأوروبية في العلم، التي بدأت حوالي عام 803 هجرية (الموافق 1400 ميلادية). وتؤكِّد ذلك المستشرقة سيجريد هونكه في كتابها (شمس الله تسطع على الغرب)؛ حيث تقول: “ولعل أكبر دليل على هذا هو أن الغرب بقي في تأخر ثقافيًّا واقتصاديًّا طوال الفترة التي عُزل فيها عن الإسلام ولم يواجِهه، ولم يبدأ ازدهار الغرب ونهضته إلا حين بدأ احتكاكه بالعرب سياسيًّا وعلميًّا.
وعندما ظهر الإسلام و فتح المسلمون فارس و العراق و الشام و مصر في القرن 7م، رؤوا ما فى هذه البلاد من مدارس تحتضن حضارة اليونان و فكرهم و لم يكونوا على جهل بهذه الثقافات جهلا تاما، لان بعض المؤثرات الثقافية من المدارس السابقة تسربت إليهم. و بفضل ما أثاره الإسلام من حماسة للعلم و حثهم على التسامح إزاء الديانات الأخرى أدى ذلك إلى تزود المسلمين بقسط نافع من الثقافات التي التقوا بها و لم يكن السبيل إلى معرفتها إلا بترجمتها.
اهتمام الخلفاء العباسيين بالمترجمين:
- الخليفة أبا جعفر المنصور( 136- 158 ﻫ) : و قد عنى بترجمة الكتب إلى العربية سواء من اليونانية أو الفارسية، و في تلك المرحلة نقل حنين بن إسحاق بعض كتب ابقراط و جالينوس في الطب و نقل ابن المقفع كتاب “كليلة و دمنة” من الفهلوية.
- هارون الرشيد (170 -194 ﻫ): عندما كثر أعداد العلماء في بغداد انشأ لهم دار الحكمة لتكون بمثابة أكاديمية علمية يجتمع في رحابها المعلمون و المتعلمون و حرص على تزويدها بالكتب التى نقلت من آسيا الصغرى و القسطنطينية.
- المأمون ( 198-218 ﻫ) : ازداد اهتماما ببيت الحكمة، فوسع من نشاطها و ضاعف العطاء للمترجمين و قام بإرسال البعوث إلى القسطنطينية لاستحضار ما يمكن الحصول عليه من مؤلفات يونانية في شتى ألوان المعرفة، فاخرج المأمون لذلك جماعة منهم الحجاج بن مطر، و ابن البطريق فاخذوا مما اختاروا و قد ذكر ابن النديم أنه كان بين المأمون و إمبراطور القسطنطينية مراسلات بهذا الشأن.
الترجمة و النزاعات الطائفية
ومن ثم يناقش أوليري النزاعات الطائفية التي حدثت داخل المسيحية بالمنطقة، ويعتبر نقل العلوم اليونانية بالأخص منطق أرسطو بقرائة فرفريوس إلى هذه المناطق حدث عن طريق رجال الدين وذلك من أجل معالجة حواراتهم الكلامية المذهبية، وهو الأمر الذي تكرر بصورة مشابهة وبنفس النوازع والدوافع في العالم الإسلامي في فترة حركة الترجمة كما يزعم أوليري. بهذه التفاصيل قد نستنتج بأن الفضاء الفكري الذي كان سائدا في فلسطين والشام بكل ألوان الحوارات في العهد المسيحي كان على قدر من الخصوبة، ليتمكن من تصدير المترجمين ولكن هذه المرة أى فى العهد الإسلامى إلى العربية ولا السريانية.
ويعتبر أوليري أن الثقافة اليونانية التي دخلت العالم الإسلامى لم تكن ثقافة يونانية أصيلة بل ثقافة مرت بتغييرات جذرية عبر مساراتها إلى العالم الإسلامى. ويزعم أوليري أن الثقافة اليونانية وفى أثناء مسيرتها نحو العالم الإسلامى إتجهت في محطتها الأولى نحو الإسكندرية، وهناك إمتزجت بأفكار شرقية و شكلت الفكر الافلاطوني الجديد، الذي كان افلاطون وفرفريوس من دعاته الأصليين.
وبعد مرور هذا التراث بالإسكندرية إنتقل من هناك إلى أنطاكيا، أديسا، نصيبين وحرَان وكانت مراكز ساخنة للمباحثات المذهبية بين النسطوريين واليعقوبيين في إطار الفكر المسيحى، وهناك تُرجم إلى السريانية من قبل مترجمين مثل سرجون الرأس العيني وآخرين،لكنها لم تكن ترجمات خالصة وحرفية، بل عملت لأغراض خاصة تخدم الجدل الساخن الذي إحتدم في المجتمعات المسيحية فى غرب آسيا آنذاك. وإن ما نقل إلى العالم الإسلامى حسب رؤية أوليرى كان التراث اليوناني المشوش والمدنس، ويزعم أوليري أن هذا هو المسار الوحيد الذي تعرف العالم الإسلامى عبره على التراث اليونانى، والذى كان له أبعد الأثر فى تحويل التراث اليونانى إلى تراث آخر فى العالم الإسلامى.
أما الكتاب العرب بما فيهم الدكتور “مرحبا” فهم يذهبون إلى الإعتقاد بأن الأعمال اليونانية ومنها أعمال أرسطو لم تنقل إلى العالم السرياني قط، وإن ما وصل إلى المسيحيين السريان لم يكن إلا مجرد شروح وإيضاحات بقراءات متعددة وتتضمنها فى كثير من الأحيان آراء وعقائد المترجمين المبنية على الدعوة إلى مذاهبهم المسيحية وهذا الشيء الذي إعتبره “مرحبا” عائقا حقيقيا أمام ترجمة النصوص الأصلية لأرسطو إلى اللغة السريانية.الصراع المذهبى بين اليعقوبيين والنسطوريين دفع مسيحيو هذه المناطق إلى تعلم الفلسفة اليونانية، للمجادلة فى قضايا مثل القضاء والقدر والجبر والإختيار وطبيعة المسيح.
خاتمة المقال
تحدث ديميترى غوتاس أيضا عن الخطاب الديني المسيحي الساخن فى تلك المناطق أبان الفتوح الإسلامية. فغوتاس يعتقد بأن الفتوح الإسلامية وحّدت صفوف مسيحيى تلك المناطق وهم الذين كانوا متأثرين بالفكر الهيليني فى مواجهة الكنيسة الأرثدكسية (الخالسيسية). يقول غوتاس: إن الخلافات المسيحية السابقة وميول النساطرة إلى حكومة الساسانيين كانت نتيجة لضغوط الكنيسة الأرثدكسية في قسطنطنية، التي كانت تريد السيطرة على كافة المسيحيين، ولكن تدخّل العامل الإسلامى المحايد أدى إلى تشكل خطاب تعاوني وتعاملي بين ثقافات تلك المنطقة.هناك شواهد عدة تدل على أن النساطرة عدوا المسلمين المخلصين لهم من حكم الكنيسة الأرثدكسية.